ابو صلاح مشرف المنبر الاسلامي بكامله
عدد الرسائل : 75 العمر : 40 احترام قوانين المنتدى : مزاجي : تاريخ التسجيل : 11/05/2008
| موضوع: الإنقاذ بعد 18 عاما...وقفة وخواطر تاريخية (1 من 4) الخميس يونيو 19, 2008 4:21 pm | |
| الإنقاذ بعد 18 عاما...وقفة وخواطر تاريخية (1 من 4)
د. محمد سعيد القدال
السوداني 2-5-2007 لعل الوقت لم يحن بعد لدراسة وتقييم فترة حكم الإنقاذ وهي لمّا تزل في السلطة. ولكن سؤالين ظلا يلحان عليّ وأنا اتحاشاهما ما وسعني إلى التحاشي سبيل لأنهما قد يبتعدان بي عن التناول الموضوعي. وقررت أخيرا هذه الوقفة لأقول بعض الخواطر التاريخية، لعل فيها ما يفتح منفذاً لدراسة أكثر شمولاً وعمقاً. السؤال الأول هو: كيف استطاع حزب الجبهة الإسلامية أن يستولي على السلطة وهو حزب صغير ولم يمتلك بعد التأهيل التاريخي للحكم؟ والسؤال الثاني هو: كيف تمكن هذا الحزب من البقاء في السلطة 18 عاماً وربما تمتد؟ ونحن لا نطرح هذه الأسئلة لنعقد محاكمة لفترة حكم الإنقاذ، ولكن لنحاول قراءة التاريخ بعيداً عن الإدانة والتجريم، فهذه سيأتي لها زمانها ومكانها.
بالنسبة للسؤال الأول، نحتاج أن نقف عند مفهوم التأهيل التاريخي للحزب السياسي. والمقصود بالتأهيل التاريخي، أو ما سماه قرامشي هيمنة الحزب hegemony of the party، هو أن يمتلك الحزب نفوذاً راسخاً وممتداً من قدراته الاقتصادية والسياسية، ومن نفوذه في الحركة الفكرية والأدبية والفنية، وأن يتولى مفكروه صياغة كل ذلك في برنامج على امتداد الساحة الفكرية. فيكون له حضوره الآسر وسط الرأي العام، ثم يأتي بعد ذلك الاستيلاء على السلطة بذلك التأهيل، وليس بالتآمر والقوة الغاشمة. وأمامنا البرجوازية الأوربية التي ظلت تتأهل لعقود حتى استولت على الحكم. وقد عبر أحد أفرادها عن ذلك عام 1789 عندما اجتمع البرلمان (مجلس الطبقات) في فرنسا، فوقف يصيح: (ما هي البرجوازية؟ إنها كل شيء، ما هو وضعها الآن؟ لا شيء، وماذا تريد أن تكون؟ بعض الشيء). ولكنها في الواقع كانت تريد أن تكون كل شيء، وكان لها ما أرادت، لأنها امتلكت التأهيل التاريخي. وظلت أحزاب الطبقة العاملة تناطحها في السلطة وتسعى لتتأهل تاريخياً. وعندما تتأهل يكون استيلاؤها على السلطة انسياباً مع حركة التاريخ وليس قفزاً فوق المراحل أو تهريجاً ودجلاً أجوف.
وبمناسبة الحديث عن التأهيل التاريخي، يخطر على بالي موقف الحزب الشيوعي بعد ثورة أكتوبر 1964. فقد خرج الحزب من فترة الدكتاتورية العسكرية نجماً ساطعاً في سماء السياسة السودانية. فشارك في حكومة أكتوبر واكتسح دوائر الخريجين ونافست جريدته الميدان الجرائد المستقلة وبرز عبد الخالق بقدرات كارزمية. واندفع بعض قادته نحو السلطة دون أن يمتلك الحزب التأهيل التاريخي. وأدرك عبد الخالق بنظرته البعيدة خطورة ذلك الاندفاع وحاول لجمه. وتدخلت قوى داخلية وخارجية وحالت دون ذلك، واصطرع الحزب الشيوعي حتى انقسم عام 1970. وكان ذلك هو الفرق بين الثوري والمغامر. وهذه خاطرة عابرة ربما وقفنا عندها لاحقاً وقفة أطول.
فهل امتلك حزب الجبهة التأهيل التاريخي الذي يمكنه من الاستيلاء على السلطة وحكم البلاد؟ لنجيب على هذا السؤال نعود إلى الظروف التاريخية التي نشأ فيها الحزب. برز حزب الجبهة الإسلامية القومية بعد ثورة أكتوبر بقيادة د. حسن الترابي. وكان حزباً صغيراً، رصيده الأساسي في الجامعات والمدارس لأن الحكم العسكري لم يلجم يده مثل الأحزاب الأخرى، ودور الترابي في ندوة جامعة الخرطوم التي كانت الشرارة التي فجرت ثورة أكتوبر الذي كافأه عليه الخريجون بإعطائه أكثر الأصوات في انتخابات الخريجين.
فماذا فعل الحزب بعد ذلك؟ فعل ما فعلته كل حركات الهوس الديني بداية من الإخوان منذ حسن البنا وحتى طالبان، وهو الاتكال على سلطة أقوى تستقوي بها وتقوم بدور مخلب القط، وعندما يشتد ساعدها ترميها أو ربما تنقلب عليها. كان الصراع السياسي بعد ثورة أكتوبر عنيفاً. فالحزب الوطني الاتحادي وحزب الامة يتوجسان خيفة من نفوذ الحزب الشيوعي الطاغي وخطابه السياسي المدوي. فقاما بحله وطرد نوابه من البرلمان. واستغلا حزب الجبهة في تلك المعركة. وزاد اتكال الحزب على تلك القوى السياسية وهو يسير في ركبها. وكان المسرح السياسي يموج بصراعات وتيارات، ولم ينجل الأفق بعد. فوقع انقلاب 25 1969 وقلب الموازين.
ودخل حزب الجبهة مع الأحزاب الكبيرة في معارضة نظام مايو. فشارك في المعارك العسكرية في الجزيرة أبا وفي 1976. وفي ذات الوقت أخذ بعض قادته يتجولون في بلاد البترول ويجمعون الثراء الذي فتحت تلك البلاد لهم أبوابه. وعندما أعلن نظام مايو المصالحة مع القوى السياسية عام 1977، اندفع حزب الجبهة بكل طاقته مع ذلك التيار. وتعامل الصادق المهدي مع المصالحة بحذر، وامتنع الشريف الحسين والحزب الشيوعي عن الدخول فيها.
وأخذ قادة الجبهة يدبجون الحجج لتبرير دخولهم المصالحة والإشادة البلهاء بنظام نميري. فقال الترابي في أول لقاء مع نميري إنه لمس حرص الرئيس على بناء المجتمع الموحد الفاضل وتأسيس كيانه القانوني. وإن التزام الرئيس تجاه أمته جاء متسامحاً وسخياً عكس الظنون التي توهمت أنه سيلجأ للبطش بمحكم ثقافته العسكرية. وقال وقد انكسرت شوكة الطائفية اليوم وتهيأت حركة سياسية حديثة نحو الإسلام مبرأة من الجمود والقيود. وإن الفراغ السياسي بالتمزق قد ملأته ثورة مايو حتى وصلت إلى شموخها الحالي. وقال أنهم لا يكادون يختلفون مع الثورة إلا في قضايا فرعية لا ينفك الناس على الاختلاف حولها. وأشار إلى أن دواعي لقائه مع الثورة تعود إلى اتجاه قيادتها نحو المنهج الإسلامي في سلوك القادة وتربية المجتمع وأوضاعه التشريعية. (نص الأحاديث في جريدة الأيام).
وقال يس عمر الإمام أحد قادتهم في تبرير تصالحهم مع النظام: لقد تصالحنا نحن الإسلاميين مع النظام، وأن من مقتضيات الحكمة ألا يعرض الداعية نفسه إلى خطر الإصابة بالإدمان السياسي. فالمصالحة في المقام أول استجابة للمبدأ القرآني الذي يحكم مبدأ التعامل السياسي مع الخصوم، فطالب المسلم بقبول مبدأ فض المنازعات بوسائل السلم لا بالإضراب. والمصالحة أصل في الإسلام وواحدة من ركائز النهج الإسلامي. ويمضي فيقول: إن الجماعات الإسلامية التي ظلت تعارض الأنظمة، تخدر وعيها بفقه المعارضة، فأورثت أبناءها تقاليد في العمل السياسي قائمة على مناهضة الأنظمة الحاكمة على إطلاقها، وهؤلاء لم يحاولوا أن يكتشفوا أو يتعرفوا على فقه المصالحة الثابت الأصل في الإسلام. ويبرر معارضتهم السابقة لنظام مايو فيقول: إنهم حين دعوا إلى تكوين جبهة وطنية عام 1969، لم يعقدوا حلفاً مقدساً بين أعضائها ولم يكن حلفاً مقدساً لإسقاط النظام، وإنما كان تجمعاً لأطراف المعارضة حول برنامج العمل السياسي المشترك. (الأيام يناير 1980) | |
|