صحيفة الوطن
فيها أجمل ذكرياتي
محاسن حسن المكي
مثلما كانت أمدرمان مدينة تتزين ملامحها بالأصالة والحضارة والثقافة والفن والجمال والإبداع.. كذلك أهلها فهم طيبون ومتميزون ومتسامحون.. وجوههم ضاحكة مستبشرة.. تعرف فيها نضرة تمازج فيها الأدب والحياء والحب والتحنان الذي ينبع من دواخلهم النقية.
مثلهم كمثل النبت الطيب الذي ينمو ويزهر ويثمر أينما غرس وحيثما بُذر.. في ليلة بدراء احتفلت فيها الكواكب بالقمر الذي نشر صفاته وضيائه وجماله في بسطة وسخاء ليعم الأرجاء ويشع في النفوس السعادة والبهجة والإمتاع.. مما يدعوك إلى التفكر والتأمل والتبصر في عظيم خلقه وصنعه، وفيما أنا مستغرقة في تأملاتي أرخى الليل سدوله حتى انتصف أو زاد عليه قليلاً.. وبالرغم من ذلك لم يغشاني النعاس أو يغيب جسدي الوهن في «نومة» عميقة تريحني من عناء يوم مثقل بالرهق والنصب والتعب.. عندها أفردت لذكرياتي وتداعيات أشرعة الإنطلاق.. فحلقت بي مناحي شتى من مدينة أمدرمان الفاضلة استقر بها المطاف في حي المسالمة حيث ولدت ونشأت وترعرت فهو من أرقى أحياء أمدرمان وأعرقها وأكرمها يسوده الهدوء والسكينة حتى يخيل إليك أنك لا تسمع فيه همساً ولا ركزاً. وما ذكر ذلك الحي إلا وتذكرنا الفنان الراحل/ الفاضل أحمد الذي ترنم برائعة الشاعر/ عبد الرحمن الريح «لي في المسالمة غزال نافر بغني عليهو» وهي من عيون شعر الحقيبة. وفي حي المسالمة كما تسمع أصوات المآذن يسمع أيضاً قرع أجراس الكنائس.. اذ يقطن فيه طوائف الأقباط والمسيحيين حيث يعيشون في أمن وسلام وجمال مع اخوتهم المسلمين محققين معاني التعايش السلمي بين الأديان.
ولعل اسم المسالمة اشتق من هذا المعنى.. ومضيت مع ذكرياتي التي ساقتني إلى حي الركابية وهو غير بعيد من حي المسالمة من الناحية الجغرافية ومن أبرز شخصياته الأدبية الشاعر الفذ/ التيجاني يوسف بشير صاحب الإشراقات المتوهجة والمفردات الشفيفة والحروف المنمقة ليرسم لنا لوحات شعرية خلدت مع الزمن. نختار منها هذه اللوحة بعنوان «زهي الحسن» وقد انداحت فيها مشاعره بغزارة وحرارة.
آمنت بالحب برداً وبالصبابة نارا
وبالمسيح ومن طاف حوله واستجارا
وبالكنيسة عقداً منضوداً من عذارى
ايمان من يعبد الحسن في عيون النصارى
وفي أمدرمان تتجلى ضروب من الإلفة والترابط والإنتماء الذي ينبع من حواريها وأزقتها ونفافيجها التي تعتبر جسور التواصل بين الأسر ولم يزل بعضاً منها موجود حتى الآن.. وأيضاً دهاليزها ومن أشهرها دهليز صالح جبريل بحي القلعة التي عرفت «ببدورها» وحسانها.. وما زلت اتنقل مع ذكرياتي من حي لآخر حتى وصلت حي «العصاصير» وهو من الأحياء القديمة جداً وقد لا يعرفه الكثيرون.. أما موقعه فينحصر بين صينية مكي ود عروسة والمحطة الوسطى نهاية شارع أبو روف، وتنبع أهميته في أنه أنجب الأديب والروائي والقاص الأستاذ/ علي المك عليه الرحمة فهو فنان شامل في أدبه وثقافته وخُلقه وحبه لأمدرمان الذي كان مطبوعاً فيه بالفطرة منذ نشأته وأيام جهالته وزمن الطفولة. أحبها بنهم وشغف ملأ عليه فضاءات قلبه ونفسه فعاشت في كيانه بكل عظمة وشموخ وكبرياء وقد تعشق أغنية الحقيبة بكل مقوماتها الجمالية والإبداعية من تفنن وأبدع وأطرب في أدائها فيما بعد.. ولا أحسب أن مطرباً واحداً استطاع ان يحفظ ويردد ويجود في أدائها مثل ما كان الراحلين/ بادي محمد الطيب وعبد العزيز محمد داؤود.. ففي صوته «تقاسيم وترانيم» استمعوا له وهو يشدو «إمتى أرجع لي أمدر وأعودها» للشاعر/ عمر البنا أو «جسمي المنحول براهو جفاك» للشاعر محمد البشير عتيق أو «أنة المجروح» للشاعر/ سيد عبد العزيز وبخفة ظله وملاحة حديثه وفي جلساته الفنية والاخوانية غالباً ما يصدح بكلمات بسيطة تصاحبها «نقرشة» على الكبريتة لها وقعها ومزاجها الحسن على الاسماع ومما كان يدندن به
أهم شيء الحمام
ونظافة الأجسام
والزول أكون بسام
وتعود بي الذكريات إلى ليالي أمدرمان العامرة بالمدح والانشاد التي تجسدها لنا حلقات الذكر والذاكرين في المساجد والخلاوي وساحات المولد النبوي الشريف حيث تشدنا «نقرات» الطار وضربات النوبة والدراويش بجببهم المرقعة ورائحة البخور التي تعبق في المكان وتعطر القلوب والنفوس فتسبح في عوالم الروحانيات والايمانيات وتعلو الحناجر بمدح المصطفى «صلى الله عليه وسلم» حتى الساعات الأولى من الصباح. والليل عند الصوفية له مذاقه ومزاجه وقد جعلوا منه سميراً ورفيقاً ونديماً.. يحكي ان أحد المشايخ كان «يقيم» الليل فتناهى إلى سمعه من على البُعد صوت الفنانة «كرومة» وهو يتغنى من شعر أبو صلاح بأغنية «يا ليل أبقى لي شاهد على نار شوقي وظنوني» فأرهف السمع وتملكته النشوى والطرب والسرور.